الخرطوم – ماجد القوني
لا تحدثني عن الحرب.. أنت لم تكن هنا حين باغتنا الخوف، الرعب، الجوع والقلق على مصير أبنائنا، نستيقظُ على أصوات المدافع وننام على دويّ الراجمات والهاون، نُغلق أطفالنا في الغرف يبقون لساعات تحت الأسرّة خوفاً من الرصاص والشظايا المُتناثرة، ننام بنصف وعي، الانفجارات هنا وهناك، أغلفة الرصاص على سقوف المنازل وباحاتها.
أنت لم تكن هنا حينما كانت سُحب الدخان ورائحة البارود تغطي سمائنا، وأزيز الطائرات لا يهدأ، المجنزرات على الاسفلت تصدر صريراً تتمنى رصاصة في رأسك لتنجو، الجثث في الشوارع، بعضها تحول لهياكل عظمية، الكلاب تتغذى على المتحللة منها، البعض منهم كان يبحث عن بعض ماء أو قطع من الخبز لأسرته التي تحاصرها الحرب، جثث عجز أصحابها عن الخروج بها إلى حيث الأمن، أقصى أماني ذويهم العثور عليهم ودفنهم في قبور تليق بهم، بدلاً عن حواصل الكواسر والكلاب والقطط، المئات من القتلى ولا سرادق عزاء، المعزّون هنا يتسللون خلسة تحت زخات الرصاص والانفجارات من أجل مواساة قصيرة ليعودوا لملاجئهم غير الآمنة.
قسوة الحرب في أنها لم تقتلنا، بل تركتنا نهباً للخوف والقلق، سعيدون من قضوا في بدايتها، مضوا وتركونا نعاني ويلات الحرب، تنخلع قلوبنا مع كل صوت انفجار خشية أن يودي بحياة عزيز لدينا، طوال أشهر نبحث لنا عن عاصم من الموت.
أنت لم تكن هنا حينما تتمخضّ المفاوضات بين الجنرالين عن هُدنة لتمرير المساعدات الإنسانية، تمضي الهُدنة ولا نسمع فيها سوى شخير المقاتلين ورصاص المتفلتين وقُطاع الطُرق، لتبدأ الحرب من جديد ونتجرع خيبة أملنا، دون أن تصل تخوم مناطقنا قطرة زيت أو ذرّة دقيق، ومنظمات دولية تحتفي هناك بنجاحها في إيصال المساعدات، ونحن ينتابنا القلق والخوف حين نرى مخزون الدقيق والسكر والزيت ينفذ من مطابخنا التي كانت بالكاد تتماسك من أجل البقاء، لم نكن بحاجة للمساعدات بقدر حاجتنا لأن تتوقف الحرب وأن نغفو على أجنحة سلام وإن كان مرتبكاً، نجلب لأطفالنا ما حرمتهم منه الحرب، أن يمضي ليلنا دون كوابيس، أن نواري جثث من فقدنا ونتقبل العزاء في أرواحهم من داخل سرادق عزاء تُليق بمكانتهم داخلنا، وأن نُجيب أطفالنا حين يسألوننا متى تتوقف الحرب..؟، وهل سنعود إلى مدارسنا يوما ما..؟
أنت لم تكن هُنا ليصفع كبرياؤك تساؤلات العابرون إلى العواصم الإفريقية: “ما مرقتو لسة من الخرطوم؟.. تعالوا القاهرة.. نيروبي آمنة.. كمبالا، أديس أبابا” وكأننا من اختار للحرب ميقاتاً ولم نتفاجأ بها ونحنُ في آخر دهاليز الفقر والحاجة!!.
وكأننا يسعدنا مشاهدة مجريات القصف والإنفجارات والجُثث في الشوارع تنهشها الكلاب والنسور الكاسرة.. لم يكن تحت أقدامنا وقتها بُساط الريح يا صديقي، الفخاخ في كل مكان، المتاريس هنا وهناك على امتداد البصر تتمنى النجاة ولو لساعات.
أنت لم تكن هُنا حين جربنا كل طقوس الحرب، الجوع لم يكن أكثر ما يُثير قلقنا، دائماً كان هنالك ما يؤكل بغض النظر عن نظريات المختصين بالأغذية والسعرات الحرارية، كنا نجد ما يسدُ رمقنا وما نتقوى به لنسكت كبريائنا ولتذهب المنظمات الأممية إلى الجحيم، حيث كانت في انتظار أن ننتظّم في معسكر في أطراف المُدن لتصلنا المساعدات، جربنا أن نسير لمسافات طويلة لجلب الحطب وأحياناً المياه، ليس لعدم وجود مواصلات، بل لأننا نفتقد قيمتها، اعتدنا الحياة في الظلام، وكيفية اشعال كومة من الحطب لأعداد طعامنا، تعرّفنا على أنفسنا وأزواجنا، أطفالنا وجيراننا من جديد، تحدثنا عن كل ما يخصُ الحرب، اللاجئون، النازحون، الفارون من السجون، الرأسماليون الذين تبخرت ممتلكاتهم، الفقراء الذين ظهر عليهم الغنى، تحدثنا عن تداعيات الحرب على الدولار وكُرة القدم والحركات المُسلحة في دارفور، وخيبة أمل الممسكون باتفاق جوبا، المتاجر التي أُغلقت والأسواق التي قامت على هامش جغرافيا الحرب.. لكن لم نتحدث عن السلام، الأمن، السكينة والحب وأحلامنا التي جمدها الخوف والرعب.
أنت لم تكن هنا حينما كان يتربص بنا الموت، المنازل لم تعد آمنة، الطُرق، حتى دواخلنا أوشكت الوحشة أن تقتلها.. الموتُ هُنا لم يعد مخيفاً أنه ينتظرك في الأنحاء.. يبقى الوعد بينك وبينه معلقاً على أهداب رصاصة، شظية وأنت جالس في مقعدك تتناول افطارك، أو ممدداً على فراشك.. ربما يودي بحياتك نقص في الأوكسجين أو عدم توافر جُرعة دواء أو الغياب عن جلسات الغسيل أو انقطاع دواء السكري.. الموتُ هنا لم يعد غريباً أو مدهشا لأحد.
أنت لم تكن هنا حينما كان الجدل مُحتدماً حول الحرام والحلال فيما يُباع في الأسواق، البعض قضى بحرمتها إلا ما يسد جوع اليوم ويُبدده، البعض اعتبرها عدالة السماء في توزيع الثروة ومداولة الأيام بين الناس، حتى الأسواق حُملت فوق طاقتها، لكن بمرور الوقت انتصر الجوع على الجدل الفكري والأيديولوجي، ومخاوف مستقبل الحرب جعلت تخزين الطعام أمراً جالباً للطمأنينة.
أنت لم تكن هُنا حينما كانت الوعود تترى من قيادات الجيش بقرب انجلاء الأزمة، ساعات فقط وتعود الخرطوم لرشدها، وتمضي الساعات، الأيام، والأشهر، تتبدّد الآمال وتشتد الحصارات لتبدأ مرحلة التعايش من أجل الحياة، وحين تنقل وسائل التواصل عن مسؤولين في الدولة، بأن “الخرطوم ليس بها سوى قوات الدعم السريع واللصوص” تتحسس حينها وجودك وتلعن الظروف التي جعلتك تبقى هنا.. وأنت ترى الآلاف من الشرفاء في معاناة البحث عن لقمة خبز، المئات من المعلمين يحملون الأثقال أو يفترشون الأرض من أجل البقاء.. مثقفون يبيعون لفافات الدخان وأعواد الكبريت، أطباء انشغلوا ببيع أكواب العصير وساندويتشات الفلافل والبطاطا، صُحفيون يفترشون الخضروات، مهندسون عمال باليومية، ومتسولون وهاربون من الخدمة، مُطلقات، أرامل، وأطفال خلاوى.. الكُل هنا يحاول أن ينجو وتجاوز فكرة أن يكون لصاً حسب التقييم الرسمي للدولة لمواطنين عجزت حكومتهم عن إخلاؤهم من مناطق الحرب، بالرغم من أنهم يدفعون ضرائبهم للعيش في أمان، ويُحشدون للتأييد السياسي وانتخاب قيادات الأحزاب، لكن الدولة لاذت بالفرار من أول أسبوع للحرب، ولم يتبق منها سوى الاتهامات والوعيد، ووعود مؤجلة.
أنت لم تكن هنا لتحدثنا عن الحرب وويلاتها.. لا تطلق الأحكام على من تبقى هنا حيث يعاني الحرب والحاجة والمرض وانعدام الأمن، أنت لا تدري ما يحدث هُنا، الكل هنا يُقاتل من أجل وجوده ومستقبل أطفاله، لا يكفي أن تتحدث عن الحرب وأنت في إحدى الشُرفات تحتسي كوباً من الكابتشينو، أو قهوتك المُثلجة في كامل ملابس نومك بعد عودتك من سهرة ليلية، لا يكفي أن تتحدث عن الخيانة والحرب فقط لأنك تمتلك ثمن تذاكر السفر لك ولأسرتك، وهنا من هو على استعداد أن يبيع عمره من أجل جوال من الدقيق أو الأرز، رجاء لا تحدثنا عن الحرب.. فنحنُ نعيشها الآن.. سنحكي لك تفاصيلها حين عودتك إن بقينا على قيد الحياة.. أو ربما ستجد آثارها هنا وستشاهد ما عانيناه حقيقة.. أنت أخترت الخروج حيث أُتيح لك ذلك.. دعنا إذا لخياراتنا.