كتب: أتيم قرنق
لكن بنسبة لي شخصياً، فان المشكلة ليست الطيب مصطفي. إنما الطيب كان مجرد بوق مشحون بالإقدام و الشجاعة يقول ما تربي عليه و ما تتداول في الأمسيات داخل البيوت السودانية و لكن مسكوت عنها! فمن أية مدرسة في السودان تعلم فيها الطيب كل هذه الكّم الهائلة من مفردات الاذلال و تبخيس الآخرين؟ الطيب مصطفي كان سودانياً مقدام قال المستور و المكتوم المباح في المجتمع السوداني. الطيب مصطفي كان صريحاً و قال بوضوحٍ ما تشبعت به روحه و عقله الناقد منذ طفولته.
ان الحروبات التي دارت في جنوب السودان ١٩٥٥-١٩٧٢ و ١٩٨٣-٢٠٠٥ قد عكست عملياً الشخصية السودانية الحقيقية و المسكوت عنها و هي تلك الشخصية التي كان يعبر عنها الراحل الطيب مصطفي و قبله عبر عنها شعراً الدكتور عبدالله الطيب في ديوانه (أصداء النيل) و طبقه ادارياً علي بلدو، و عبر عنه سياسياً الازهري و المحجوب و الصادق و تطبيقياً و عملياً من خلال الحرب و الدمار و الموت عبر عنها الجيش السوداني (ابراهيم عبود، جعفر نميري و عمر البشير). و الحروبات هذه اتسمت بعنف و قسوة و لا إنسانية لا مثيل لها إلا حملات و غزوات القرن التاسع عشرة التي كانت ترسل لإستصياد العبيد والرقيق. الطيب مصطفي لم يقتل أسيراً جريحاً و لم يحرق قرية و لم يقصف المدن بالطائرات و لم يغتصب جنوبية سودانية قط؛ كم من مواطني جنوب السودان كانوا يقرأون له و تأثروا بحقده و كراهيته؟ و يا تري كم من مواطني جنوب السودان الذين لا يعرفون و لم يكتووا بقسوة و حقد و كراهية الجيش السوداني؟ و اليوم يجعل بعض الناس الطيب مصطفى حمال وجه القَبـَاحة. الطيب مصطفي لم يكن شريراً و لا أظن انه سيذهب الي الجهيم، لانه كان يعبر عما في نفوس أفراد الجيش السوداني؛ كان يعبر و يكتب نيابة عن ابراهيم عبود و عن الجنجويد و عن الدفاع الشعبي. كان يكتب عما كان و مازال يعشش في عقول كل من شارك في حكم السودان منذ ١٩٥٦ حتي يومنا هذا. و الحديث عن دوره و مساهمته في انفصال جنوب السودان هو حديث ساذج و كلام سطحي لا تسانده اَي حقائق تاريخية و (نافخ البوق ليس هو قائد المعركة)
كل الحروبات التي دارت بين (الجنوبيين) و الجيش السوداني و التي امتدت لفترة تزيد عن الثلاثة عقود، لم يحتفظ خلالها الجيش السوداني بأسير واحد و لو كان جريحاً. لماذا لم يحتفظ الجيش السوداني و لو بأسير واحد؟ الجواب يكمن فيما كان يقوله و يكتبه الطيب مصطفي هو الحقد و الكراهية و اعتبار الجنوبيين السودانين مجرد أناس من الدرجات المنحطة في تصنيف البشر و لذا لا يستحقون الحياة. و لو ليس هذا؛ فما هو التفسير الاجتماعي و النفسي لهذه الظاهرة الشاذة (القسوة المفرطة و تلذذ بقتل الناس) و التي لم يجرؤ احد علي سبر غورها لاستنباط العبر منها.
ان الطيب مصطفي لم يكن لوحده فكل أساطيل الانقاذ كانوا معه يمولونه و يحمونه و يشجعونه و كان يعبر عما يعتبرها الهوية السودانية الحقيقية و الأصلية. و ان سألتَ “من أين جاء هؤلاء”؟ فالجواب: إنهم جميعهم أتوا من صلب و دم الشعب السوداني من اباء سودانيين و امهات سودانيات، و تعلموا علي أيادي معلمين و شيوخ سودانين (شرفاء) و في خلاوي و مدارس سودانية منهجاً و توجهاً. نعم و بصيغة اخري من أين اتي أفراد الجيش السوداني الذين لم يبدر منهم ذرة رحمة و لم ينهلوا شيئاً من مبأدئ دينهم المقام علي قواعد الرحمة و المغفرة. كيف كانت تفكر قادة الجيش السوداني و هم يخوضون (حرباً أهلية) خالية من اَي رحمة و شفقة ثم نآتي ننعت الطيب مصطفي بكل ما هو ذميم في حين انه كان مسالماً يكتب و يجادل و كان الناس يردّون علي أضاليله، و هل هناك من يرد علي الجنجويد و الجيش السوداني عندما ينفذون الحقد من خلال (مجزرة بيت الضيافة) و (مجزرة القيادة العامة) و في دار فور و من قبل جنوب السودان؛ انها الهوية السودانية التي تعتنقها الصفوة و كان الطيب مصطفي (الناعق) بها.
الطيب مصطفي (له الرحمة إن شاء الله ) لم يكن ظاهرة اجتماعية سودانية غريبة او شاذة و إنما كان يعبر و يجتر من رواسب اجتماعية دفينة في الثقافة السودانية المؤروثة من عمق التاريخ. فقط الفرق هو انه كان اكثر صدقاً و إقداماً ليعبر عما يجيش في نفوس و ما يعتقده الكثيرون من السودانيين عن بعضهم البعض و عننا نحن أهل جنوب السودان. لقد مات (حمال الحطب) فهل سيتوقف الحروبات التي تقتل فيها الآلاف من السودانين الأبرياء؟ هل سيشعر أهل دار فور و نساء الجنينة بالأمان لان صانع و مروج الشر قد ترجل و رحل؟ و هل سوف تقوم حكومة السودان بنشر السلام و العدل الاجتماعي في ربوع السودان؟
صحيح أيضاً، يجب ان نوجه نفس السؤال لمن شمتوا في رحيل الطيب مصطفي من مثقفي جنوب السودان؛ هل يتري الحرب و تشريد الناس من مساكنهم في جنوب السودان ستتوقف لان صانع الشر و بوق الانقاذ قد مات؟ أبداً، الطيب كان مجرد بوق و لم يكن مصدر مشكلات جنوب السودان او السودان.
الطيب مصطفي لم يكن شريراً إنما كان صريحاً يعبر عن عقلية قومه باستخدام القلم و الكتابة؛ و عن هذه العقلية، يعبر عنها الجنجويد و الجيش السوداني باستخدام السلاح و العنف. ان عقلية كل من يحكم السودان ماضياً و حالياً هو صورة طبق الأصل لعقلية الطيب مصطفي.
هل لدي الجيش السوداني الشهامة و الإنسانية و يعتذر عما ارتكبوها من المجازر في جنوب السودان و نترك الطيب مصطفي بين يدي ربه الغفور الرحيم.
أما انا فقد سامحتك أيها الشيخ (الطيب مصطفي) و اتمني ان يغفر الله كل جريرة قد تكون إغترفتها اثناء حياتك، و لأسرتك العزاء الصادق.