سنار – “لم أعمل في حياتي سابقًا ولكني مضطرة للعمل بالرغم من مرضي، أريد أن أوقف صرخات أطفالي الجائعين في البرد”.. هكذا ابتدرت أم محمد المرأة الأربعينية قصتها في حديثها لـ(سودانس بوست) وهي تحاول أن تخفي الألم، ولكنه بادٍ على وجهها، حين تكشف أن لديها خمسة أطفال وهي مصابة بمرض السكر. تروي أنها لحظة اندلاع الحرب التي اشتعلت في الخرطوم، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، كانت تُحضر وجبة الإفطار لأطفالها، بجانب تحضير وجبة إفطار الصائم ليحملها زوجها الذي يبيع الأواني المنزلية، إلى مقر عمله بالسوق الشعبي في أم درمان.
حياة بالغة القسوة والتعقيد يعيشها النساء في مراكز ودور الإيواء، عقب حرب 15 أبريل المندلعة في الخرطوم وبعض ولايات السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وبعد تمددها وتوسع رقعة القتال لولايات أخرى، آخرها ولاية الجزيرة التي استبيحت في ديسمبر الماضي، فتمدد النزوح إلى ولاية سنار ومدن أخرى شرقي وجنوب وشمال البلاد، (سودانس بوست) وقفت على أحوال النساء بدور الإيواء في سنار، وخرجت بمظاهر وأحوال قاتمة.
تقول أم محمد لـ(سودانس بوست)، في قصتها مع الحرب، أنه وبعد شهرين من تصاعد حدتها بين الأطراف المتقاتلة “خرجتُ مع أطفالي في رحلة البحث عن مكان آمن، فاتجهت جنوبًا إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، بينما اختار زوجي البقاء وحده في المنزل، بحي (الديم) جنوبي الخرطوم، خوفاً من تعرض المنزل للسرقة”.
وتمضي في سردها “في ود مدني تستمر المعاناة، بعد بحثٍ مضنٍ بسبب ارتفاع أسعار إيجار العقارات، تمكنت من العثور على غرفة، استأجرتها ومكثت فيها برفقة صغاري، ولكن مع متطلبات أبنائي أصبح ما نملكه يقل يومًا بعد يوم، ومالك الغرفة يضاعف سعر الإيجار كل شهر، ثم كانت الفاجعة باتساع رقعة الحرب، لتصل إلى ودمدني، مما جعلنا ننزح إلى مدينة سنار، ولم يبق لدينا من خيار سوى اللجوء إلى دار الإيواء”.
كيف تبدو أوضاعهن؟
كل من يزور المراكز يدرك مدى سوء البيئة فيها وأنها غير مهيأة للسكن، ولكن من يمكث بها لا حيلة لديه ولا خيار، فمن النظرة الأولى ستقع عيناك على الغرفة التي تقطن بها النازحات، ضيقة ومكتظة بالأغراض، تختلط النساء والفتيات والأطفال بمختلف الأعمار، يدخلها بعض الآباء بين الحين والآخر، بعض الغرف دون شبابيك، يداهمها الذباب والناموس من كل اتجاه.
تتفاقم معاناة النازحين السودانيين بدخول فصل الشتاء، وتتطلب الأولويات في إبراز الحاجات الأساسية للنساء والفتيات خاصة في معسكرات اللجوء ودور ومراكز النزوح في البلاد.
وتصف أم محمد حال وأوضاع النازحات لـ(سودانس بوست) بالاستسلام، بعد أن غالبت دموعها وارتعش صوتها، وهي تحاول إخفاء أوجاعها وتجاوز العبرة التي تخنق الكلمات في حلقها، ثم قالت: إن أوضاعهن صعبة للغاية، يعانين من انعدام الخصوصية بسبب الازدحام بالداخل، والنازحات يفترشن سجادات الأرض للنوم، والأطفال ينامون فوق بعضهم، حيث أن الغرفة الواحدة تضم حوالي 5 أسرة، بجانب أن المراحيض سيئة وروائحها الكريهة تصل أحيانًا داخل الغرف، وفي الخريف النساء يقمن أثناء الليل لحماية أطفالهن من أسقف الفصول المتهالكة حتى لا تنزل عليهم الأمطار.
وشكت من أن غالبية المسؤولين في الدار ذكور، وأن كثيرًا ما تحتاج أوضاعهن للعنصر النسائي، وتابعت بقولها: نحن النساء نعاني من النظافة الشخصية الكاملة، مع تراجع توفير الفوط الصحية وحافظات الأطفال والأدوية والفيتامينات للنساء، بعد أن كان يتم توفيرها بكميات كافية منذ فترة قليلة مضت.
شح الإمكانيات..!
وتعمل غرفة طوارئ سنار بجهود شعبية على توفير الغذاء والاحتياجات لكل مراكز الإيواء، بمعدل وجبتي الإفطار والغذاء، ويتمثل الغذاء العدس المطهي وكبسة الأرز واللحم، إلى جانب توفير السكن والوجبات والدواء للأمراض المزمنة فقط. وبشأن الطعام، أشارت أم محمد إلى أن الحصة ليست بالكافية، رغم توزيعها بشكل متساوٍ لهم في المركز، مبينة أن الحصة لا تشبع أطفالها، مما أجربها لرحلة البحث عن عمل، فتقول “أصبحت عاملة نظافة في إحدى المنازل، بخلاف مساعدتي في مركز الإيواء”.
و تشير محدثتي إلى أن معظم النازحات لجأن للعمل في الأسواق كبائعات للطعام والشاي، أو عاملات نظافة، ومنهن من يبعن الخضار، وأخريات اتجهن لموسم الحصاد في الزراعة، ولكن هذا الحال لم يعد ممكنًا بعد حالة الخوف التي أصابت التجار، وإغلاق معظم الأسواق، مما ضاعف الأوضاع سوءًا أكثر مما كانت عليه.
وضع أم محمد يعبر عن الآلاف من النازحات بمراكز الإيواء في مدينة سنار التي بها (22) مركزًا للإيواء وجميعها يتم تمويلها بالجهد الشعبي، وهذا ما تؤكده غرفة طوارئ سنار من خلال آخر احصائية لها حتى كتابة هذه السطور والتي تعمل بالرصد كل ثلاثة أيام دخولًا وخروجًا، وقد بلغ إجمالي عدد النازحين (460) ألف فرد، من (872) أسرة.
ويذكر أن غرفة الطوارئ المعروفة بـ(سنار بيتك) بالولاية التي تقع على بعد (360) كيلو مترات جنوبي العاصمة الخرطوم، تم تكوينها في أواخر شهر رمضان الماضي، بجهود شعبية من أبناء وبنات المنطقة، حيث كانت في بداية الأمر عبارة عن خيمة تستقبل النازحين من ويلات الحرب، وتقدم لهم وجبات الطعام والمياه، وتوفير الملجأ لمن لا منزلة لهم، أو لم يستطع استئجار مسكن، فأصبحت المدارس دور لهم.
لا سيما تجدد المعارك بين الجيش والدعم السريع في ولاية سنار في أواخر ديسمبر الماضي، في الأجزاء الشمالية والغربية من ولاية جنوب شرقي البلاد والتي تبعد حوالي 15 كيلو مترات من داخل مدينة سنار، ويأتي تقدم قوات الدعم السريع إلى سنار بعد 5 أيام من السيطرة على ولاية الجزيرة وسط البلاد.
غرفة الطوارئ
من مقر صغير ضيق، أشارت الناشطة الاجتماعية والمهتمة بقضايا النساء، وعضو غرفة الطوارئ بدار الإيواء، نسيبة الإمام، إلى أن مراكز الإيواء في الأساس مدارس، ومعظمها تعاني من بنى تحتية.
وفيما يختص بالصحة، بينت أن عدد الحمامات قليل وسيئة للغاية، تحتاج إلى عملية تفريغ كل يومين، لافتة إلى أن المراكز تعاني من عدد من المشكلات، أهمها تفشي البعوض تزامنًا مع فصل الخريف المنصرم، لافتة إلى قصور الجهات الرسمية عن القيام بدورها الكامل.
وأكدت نسيبة على المعاناة في توفير العدد الكاف من الفوط الصحية ومتعلقات العناية الشخصية، مشيرة إلى أنها عادة ما تلجأ إلى صفحتها الشخصية بموقع (فيس بوك) لجمع المال من ثم توفيرها، بجانب فقدان النساء خصوصيتهن وحريتهن داخل الغرف نظرًا للاختلاط العشوائي، رغم جهود غرفة الطوارئ في فصل الرجال عن النساء.
وفي ردها عن قصور بعض أعضاء الغرفة و وجود الشباب أكثر من الشابات، بحسب شكاوى النازحات، عزت نسيبة ذلك إلى قلة عدد الشابات مقابل تغطية خدمة الأعداد الكبيرة، ومع تجدد الأحداث في الولاية نزح بعض شباب وشابات غرفة الطوارئ إلى خارجها بسبب “ضغوطات الأجهزة الأمنية المتكررة” في المراكز والتي تفتش الحقائب والأغراض الشخصية والهواتفهم عدة مرات، ففضلت كثير من الفتيات البقاء في منازلهن وتقديم المساعدة ومتابعة الخدمات من على البعد.
فيما يتعلق بالمخازن التموينية أوضحت نسيبة أنه يقف ورائها تجار السوق الخيرين والمنظمات والمغتربين، ولكن بعد إغلاق السوق ونزوح معظم أبناء الولاية باتت تعتمد المخازن على المنظمات، مما جعلها في تراجع، وذكرت أن هنالك قسم للاختصاصيين النفسيين في حالة تعرض إحداهن لحالة صدمة أو عنف جسدي أو لفظي ويتم تشخيصهم عند بداية دخولهم لمراكز الإيواء والعلاج وفق ما يرونه مناسبًا، وأبانت أن لغرفة الطوارئ جهود أخرى لامتصاص هذه الآثار بقيام ليالي ثقافية وغنائية وجلسات للأطفال تحتوي على الألعاب ومشاركة الأطفال نفسهم.
وضع حد..!
ويواجه النساء بعد حرب الجيش والدعم السريع حالة من العنف المفرط، يتمثل في الاعتداء الجنسي، والاغتصاب المزدوج والرق والاستعباد وغيره من الانتهاكات التي ظهرت مؤخرًا.
وترى نسيبة أن هناك ضرورة ملحة لوضع حد للعنف والاضطهاد ضد النساء، ويتمثل في وقف الحرب أولًا، باعتبارها المدخل الأساسي لإيقاف أي انتهاك، بالإضافة إلى وجود قوانين لحمايتهن.
و في هذا الصدد، أشارت رئيسة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة في السودان سليمة إسحاق في تصريحات صحفية سابقة إلى زيادة الحاجة لتعزيز معدات الحماية والاستجابة للعنف القائم على النوع الاجتماعي التي تفاقمت مع ما تتعرض له النساء والفتيات في البلاد خلال الحرب من انتهاكات جسيمة.
وتحدثت المديرة الإقليمية للمبادرة الاستراتيجية للمرأة في القرن الأفريقي، هالة الكارب في جلسة لمجلس الأمن في نوفمبر الماضي، تحت عنوان “مشاركة المرأة في السلم والأمن الدوليين” حيث قالت إن حياة النساء وما يحدث لهن لا يؤخذان بالجدية الكافية، ويتم التعامل معنا باعتبارنا أضرارًا جانبية.
وأضافت الكارب “الاغتصاب والاعتداء الجنسي ونزع الممتلكات والتهجير القسري هذه كلها جرائم مارسها نظام الرئيس السابق عمر البشير، بالتعاون مع مليشيات الجنجويد، والتي أصبحت لاحقا مليشيات الدعم السريع”.
الجيش الأبيض
تمضي الطبيبة العمومية رؤى سليمان وقتها للمساعدة في توفير العلاج، وتعافي النازحات في الدار، مدونة في ذاكرتها عددًا لا يحصى من صفحات الرعب والخوف في أوساط النساء.
و تصف سليمان أوضاعهن بـ”لا حول لهم ولا قوة”، وتشير إلى أن بعض النساء بدور الإيواء في الأصل يعانين من أمراض مزمنة، بخلاف الأمراض التي لازمتهم بعد النزوح، مثل: الملاريا والالتهاب الرئوي وإلتهابات البول والإسهالات.
وحول أوضاع النساء الحوامل وصفتها بأنها صعبة للغاية، مبينة أن بعض من الولادات الطبيعية لم تسعفهم لنقلها إلى المستشفى وتمت في دار الإيواء، أما القيصرية منها كانت تحول إلى المستشفى الحكومي.
واستذكرت د. رؤى في حديثها أن هناك نازحة لم تتحمل ألم الولادة ونزل عليها المخاض قبل الوصول للمشفى وتمت ولادتها في الشارع العام.
وثمنت على جهود مركز تنظيم الأسرة الذي كان يوفر للنساء الدعم والرعاية الطبية دون مقابل، من مقابلات شهرية للطبيب وإجراء الفحوصات اللازمة والموجات الصوتية، بجانب جهود شباب سنار المتطوع مع بعض الصيدليات في توفير الأدوية للنساء.
قلق الصحة العالمية
و وصفت منظمة الصحة العالمية، في ديسمبر 2023 الأرقام الواردة إليها من السودان بأنها (صادمة) وأن ما يقارب من 25 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، ويواجة في الوقت الحالي أكثر من 20 مليون شخص مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، في حين يعاني كل طفل دون سن الخامسة في السودان من سوء التغذية الحادة.
وأضافت المنظمة في بيان صادر عنها، أنه يواجه نحو 4,2 ملايين من النساء والفتيات والفئات السكانية الضعيفة خطر التعرض للعنف القائم على نوع الجنس، الذي يمكن أن يهدد حياتهم، فضلًا عن قصور أو انعدام فرص الحصول على خدمات الحماية والدعم.
سنار/ مآب الميرغني – صحفية سودانية