الخرطوم – ظروف قاتمة ومعقدة يعيشها الصحفيين السودانيين منذ اندلاع الحرب “بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع” منذ منتصف أبريل المنصرم، فباتت «الصحافة» جريمة تقود إلى الاعتقال والتعذيب والاختفاء بشكل ممنهج.
فلكل مهنة متاعب ومخاطر متفاوتة، وللصحافة النصيب الأكبر منها، فيبدو أن صاحب مقولة «مهنة المتاعب» لم تسعفه حروف اللغة العربية لوصفها بشكل أدق.
“كثير من الصحفيين يلجؤون لإخفاء حالة المهنة في الهوية المدنية عند طلبها، حتى لا يتعرضون للمضايقات والاعتقالات من قبل السلطات الأمنية ولكن مع ذلك لم يسلموا من الانتهاكات التي تمارسها السلطات الأمنية على الصحفيين”، هكذا لخصت الصحفية السودانية «رشا حسن» الوضع الذي يعيشه زملائها الذين هَجَّرتهم الحرب من منازلهم الآمنة لينزحوا في ربوع السودان كحال شعبهم.
استهداف مقصود
نزحت الصحفية السودانية «رشا حسن» من محل إقامة عملها بالعاصمة الخرطوم، ناجية بنفسها من قصف الطيران الحربي والقذائف التي يطلقها أطراف الحرب – في تجاوز صريح للقانون الدولي الإنساني – نزحت إلى مسقط رأسها، في مدينة القطينة بولاية النيل الأبيض، التي تقع جنوب الخرطوم على بعد حوالي (95) كيلو مترات.
تقول رشا في حديثها لـ«سودانس بوست» “تعرضت لمضايقات أمنية”، إذ أبلغها المدير التنفيذي لمحلية القطينة صلاح أبو عاقلة عبر اتصال هاتفي بقرار سلطات المحلية بعدم نشر كل ما يتعلق بما وصفته بالقضايا الأمنية في الولاية.
كما مُنعت أيضًا من إجراء المقابلات بمستشفى القطينة مع الإدارة والمرضى سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، مبينة أن في ذلك الوقت كانت المنطقة يسيطر عليها الجيش الذي انسحب منها عشية 19 ديسمبر الماضي، مما مهد دخول الدعم السريع في 21 من ذات الشهر، حسب قولها.
نزوح جديد
تواصل رشا سرد قصتها وبصوت يرتعش: بعد استباحت قوات الدعم السريع منزلهم ويقطنون فيه لأكثر من أسبوع، تشعر بقلق حقيقي على حياتها وحياة أسرتها، ليس لجريمة ارتكبتها أو شيء آخر وإنما نذر عقاب محتمل في حال القيام بمهمتها على أكمل وجه.
وتابعت رشا بقولها “بعد أن أحكمت قوات الدعم السريع سيطرتها على مدينة القطنية اضطررت مرة ثانية للنزوح بصحبة أسرتي بحثًا عن الأمان بعد أن تعرضت أسرتي لمضايقات من جهة غير معلومة للضغط من جهتي لإيقاف النشر وعدم ممارسة المهنة.
وتضيف رشا “أدرك أن الأوضاع ليست على ما يرام، أوقفت النشر مؤقتا ريثما تهدأ الأوضاع وتعود شبكة الاتصالات والإنترنت”.
ولم تنجو رشا من الملاحظات الأمنية حتى بعد نزوحها، تعرضت للاعتقال للمرة الثانية من قبل السلطات العسكرية بمدينة الدويم في ولاية النيل الأبيض، في يوم 17 نوفمبر، وأفرجت عنها يوم الاثنين 18 نوفمبر.
وبحسب متابعات مصادر مطلعة، بعد انقضاء أكثر من أسبوعين على سيطرة قوات “الدعم السريع” على مدينة القطينة، أصبحت المدنية مثل مدن الأشباح خالية من مظاهر الحياة، كما توقفت الأسواق وانقطعت شبكات الاتصال منذ أكثر من 20 يومًا هناك.
ففي 20 ديسمبر 2023، استيقظ سكان مدينة القطينة على دوي المدافع والرصاص، وجراء القذائف الصاروخية والرصاص الطائش، قتل عدد من المدنيين، ولم تتمكن الفرق الطبية من حصرهم عقب إغلاق المستشفى الحكومي ونزوح آلاف السكان إلى المدن المجاورة.
ممارسة رائجة
ويرى الخبير الأمني الفاتح عثمان محجوب، لـ«سودانس بوست» أن مناطق النزاعات تعاني أحيانًا من ضعف السلطات في تطبيق القانون وسيادة قانون الطوارئ ومع التوجس من كل غريب بحجة أنه قد يكون جاسوسًا خلال تواجد الصحفي في مناطق النزاع، قد يجبر هذا الطرف للتعامل مع الصحفي بغرض إسكاته وأحيانًا يتعرض للقتل أو الإصابة عن طريق الخطأ أو العمد في مناطق النزاعات.
وأشار محجوب إلى “أنه لا توجد طريقة محددة تحكم تعامل أطراف النزاعات العسكرية مع الصحفيين، فقد يتمتع الصحافيون بمزايا عالية جدًا عندما يقبلون على تقديم تغطية تخدم طرفًا محددًا وعكس رواية للحرب تؤكد وجهة نظر هذا الطرف وهؤلاء بالطبع قد يتعرضون لانتقام الطرف الآخر إن وقعوا في أيديهم.
موضحًا “أن تعامل الجهات الأمنية مع البلاغات الخاصة بالتهديدات تكون دومًا نشطة إن كان التهديد من الطرف الآخر ومتكاسلة إن ظنت أن التهديد جاء من الطرف الذي تعمل معه”.
وتابع الخبير الأمني “قتل وتهديد الصحفيين بات سمة رائجة لدى طرفي الصراع بسبب عدم رضاهم عن التغطية الصحفية الشجاعة وغير المنحازة”.
في السياق أعربت شبكة الصحفيين السودانيين في بيان لها بتاريخ 8 سبتمبر المنصرم، عن استنكارها للانتهاكات المتزايدة التي ترتكبها قوات الدعم السريع في السودان، والتي تستهدف المواطنين العزل بشكل عام والصحفيين، والنشطاء، والأطباء، المحامين وشباب لجان المقاومة بشكل خاص، وترتكب هذه الانتهاكات بطريقة ممنهجة ومتعمدة.
ورغم الجهود والمحاولات في استنطاق جهة رسمية حول معرفة كيفية التعامل مع التبليغات أو التهديدات للصحفيين ولكن دون جدوى، ومن الملاحظ أيضًا غياب البيانات والتصريحات الرسمية في هذا الجانب.
قانون الحرب
وحول حماية الصحفيين السودانيين خلال تغطية النزاعات، يقول الخبير بالقانون الدولي عبدالمنعم آدم لـ«سودانس بوست» إن الصحفيين في النزاعات المسلحة تحت حماية قانون الحرب – القانون الإنساني الدولي- والذي يمنحه الحق في الحصول على المعلومة، مؤكدًا أن القانون الإنساني نص على حماية الصحفيين طالما يحملون إشارة تعريفية (press).
مشيرًا إلى أن الحماية وضمان حصولهم على المعلومات مكفول وفقًا لمواد محددة في القانون الجنائي الدولي، وقدمت لهم باعتبارهم أشخاص محايدين وأن تغطيتهم لا تؤثر وتشكل خطرًا على طرفي النزاع.
وتابع آدم بقوله: في السودان تمت انتهاكات واسعة للصحفيين من أطراف الحرب باعتبار أن على الصحفي تأكيد معلومات محددة، وهي تعد مخالفة من المخالفات الواقعة على عاتق الصحفيين خلال الحرب.
تساؤلات النقابة
من جانبها عكست سكرتيرة الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين إيمان فضل السيد وجه آخر من المعاناة، وقالت: خرجت الصحف والمؤسسات الإعلامية عن سوق العمل منذ اليوم الأول للحرب والتي تقع غالبيتها في مناطق الاشتباك في محيط المنطقة العسكرية ووجد الصحفيون أنفسهم بلا عمل.
وتابعت: مستهدفون ومطاردون من قبل طرفي الصراع الذين ينظرون للصحفي على أنه مجرم لأنه يحاول إظهار الحقائق التي يحاولون تخفيها وتدليسها وراء الإشاعات والأخبار المفبركة.
وأشارت بقولها: عدد الانتهاكات التي تم رصدها وتوثيقها والتي طالت مقار ومؤسسات إعلامية 28 حالة انتهاك من بينها الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون التي تحولت إلى معتقل من أكبر معتقلات الدعم السريع وفقا لإفادات أشخاص كانوا محتجزين بداخلها.
بؤرة الاستهداف
تعود مسؤولة سكرتارية النقابة إيمان بالقول: أتوقع المزيد من الانتهاكات مع استمرار هذه الحرب العبثية، مضيفة “هذا يفرض عدة تساؤلات ومهام على عاتق نقابة الصحفيين والحادبين على الإعلام أهمها كيف نجد حماية للصحفيين/ ت من الاستهداف الذي يتعرضون له من قبل طرفي الصراع؟.
وكيف يمكن السيطرة على خطاب الكراهية والعنصرية المتفاقم جراء الحرب؟ وكيف يمكن تدارك مخاطر التقسيم القبلي والجهوي الذي يمكن أن يتسبب فيه هذا الخطاب؟ كيف نُوجِد صحافة نزيهة ومهنية في ظل ظروف الحرب بعد أن أُغلقت غالبية المؤسسات؟ وكيف تداولت الانتهاكات المروعة والعنف الذي مُورس بحق الصحفيين والمدنيين عموما؟، وكيف تتحقق العدالة ويتحقق مبدأ الإفلات من العقاب؟”
وتابعت إيمان: هذه الأسئلة الإجابة عليها لا تأتي إلا في إطار كُلي في البحث عن مخرج للسودان وأهله من الحرب وتداعياتها ومع ذلك نتطلع إلى أن يتم دعم الإعلام وإيجاد مؤسسات بديلة يملآن الفراغ الذي أحدثه غياب المؤسسات الإعلامية وخروجها عن سوق العمل حتى تتم السيطرة على الأقل على خطاب الكراهية الذي أصبح متفشيا وقطع قنوات تغذيته، حتى لا يتدمر البناء الاجتماعي بعد أن دمرت الحرب البنى التحية.
وحسب تقرير صادر عن نقابة الصحفيين السودانيين بتاريخ ٢ نوفمبر 2024، سجلت النقابة مقتل (13) صحفيًا وصحفية من قبل أطراف الصراع، وتوثيقاً للانتهاكات التي واجهها الصحفيون خلال فترة الحرب، سجّلت النقابة مقتل (13) صحفياً وصحفية، بينهم صحفيتان.
وتعرّض (11) صحفياً بينهم (3) صحفيات، لاعتداءات جسدية وإصابات، بالإضافة إلى حالة اعتداء جنسي واحدة. كما واجه (30) صحفياً وصحفية بينهم (10) صحفيات، إطلاق نار وقصفاً، مما أسفر عن وفاة (15) من ذويهم وإلحاق أضرار جسيمة بمنازلهم.
إلى جانب ذلك، وثّقت النقابة (60) حالة اختطاف واحتجاز قسري بينهم (9) صحفيات، و(6) بلاغات تعسفية تعيق عمل الصحفيين وتقيد حركتهم. وسُجلت (58) حالة تهديد شخصي منها (26) ضد صحفيات، إضافة إلى (27) حالة اعتداء جسدي ونهب ممتلكات بينها (3) ضد صحفيات.
وأكدت نقابة الصحفيين السودانيين التزامها بملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين واتخاذ كافة الإجراءات القانونية لتحقيق العدالة.
المنظمات على الخط
ومن جهته يرى المدافع عن حقوق الإنسان وعضو منظمة (آرتيكل) – وهي منظمة وطنية غير حكومية وغير ربحية تهدف إلى حرية التعبير بحسب ما جاء في المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – يرى خالد حسن “أن دور المنظمات الدولية يدور في كشف ونشر الحقائق عن الانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون.
مبينًا “أن بعضها تقوم بتوفير النصح والإرشاد والتدريب على عملهم في مناطق النزاعات والحروب وكيفية حماية أنفسهم، إلى أن يستمر ذلك الدور مع دعم الجهات العدلية عالميًا أو محليًا لتعقب هذه الانتهاكات و وقف مصدرها أو التوقف عنها عبر التعاون مع المؤسسات والمنظمات المماثلة عالميًا ومحليًا”.
واستذكر خالد بقوله: قبل شهرين أعلنت نقابة الصحفيين الفلسطينيين أن عدد الصحفيين والإعلاميين الذين قتلوا أثناء تغطيتهم للحرب في غزة قد وصل 38 صحافيًا وعلى الرغم من ضراوة هذه الأرقام الفاجعة إلا أن بشاعة الحرب في السودان لا يمكن مقارنتها بما يحدث في غزة.
متابعًا: لكن الصحفيين في السودان تعرضوا بشكل غير مسبوق للقتل والترهيب والتهديد فسقطوا ضحايا النزوح والتهجير والتهميش والتخوين والتجويع وفقدان القدرة على الفعل والتأثير.
وأردف قائلًا: لأننا نعيش في عالم بلا حدود تشعر المنظمات الإعلامية العالمية بضرورة الوقوف إلى جانب الصحفيين المقهورين في السودان وفي كل مكان، ولا تأتي هذه المؤازرة خجولة ووجلة من باب العطف والإشفاق، وإنما تأتي واضحة ومعلنة صاعدة لمتطلبات المهنية وإملاءات الواجب ودوافع الأخلاق.
مآب الميرغني – صحفية من السودان